إنحرفت السياسة والحكم في زماننا هذا على وجه الخصوص عن رسالتها الطبيعية الأصلية حتى أمسى مجالها وعرا مليئا بالأشواك والأوحال قلما دخله إنسان وسلم من دخنه
الحكم والإمارة في يوم الناس هذا عاد غنيمة تشرئب لها نفوس عديد النخب "المؤدلجة" -خاصة- وتتشوف إليها قلوبهم حتى غدت معتركا قبيحا بين مختلف الطوائف والأديولوجيات كل يريد الحكم والرئاسة لحمل الشعب على ما يراه ويعتقده فكثرت التحالفات واختلفت أصناف المخابرات وتباينت الثقافات والأفكار كل يعمل على شاكلته للوصول إلى تطبيق مشروعه السياسي والإقتصادي والثقافي ( على افتراض وجود مشروع )
أخبرنا القرآن الكريم وكذلك الحديث النبوي عن أصناف الحكم وأصناف الحكام في المجال السياسي والإقتصادي والعسكري الأمني فذكر لنا من أنواع الدول والحكم :
- دولة النبوة: وهي الدول التي يحكمها نبي من الأنبياء أو رسول من الرسل كما حكم النبي عليه الصلاة والسلام دولة الإسلام بعد تأسيسها كما خرج سيدنا موسى عليه السلام بشعب بني إسرائيل لتأسيس دولته لكن قومه لم يطيعوه وهذا النمط من الحكم والإمارة متى تحقق يكون أعلى الأنماط على الإطلاق لكونه محفوظا بنور النبوة فلا يأتيه الحيف ولا يتسرب إليه الظلم بحال
- دولة الخلافة الربانية الراشدة : وهي الدول التي يحكمها الخلفاء الراشدون أي الولي الجامع بين قطبانية الظهور والبطون كالخلفاء الأربعة وكل من كان على نفس مشربهم ومذهبهم في الحكم والسياسة وسيكون مهدي آخر الزمان من هؤلاء الصنف
- دولة الملك : منه ما يكون سيئا وهو الملك العاض وهو الملك الذي يفصل باطن الدين عن ظاهره فيكون الخليفة صاحب أهواء وشهوات أسيرا لشرور نفسه وغوائلها ومنه ما يكون حسنا وهو الحكم الذي يسترشد بأهل الدراية والعناية والحكمة والعدل من أهل الله الجامعين بين الشريعة والحقيقة سواء أكان هذا المسترشد به نبيّا أم وليّا كما كان سيدنا يوسف عليه السلام مشرفا على عجلة الإقتصاد وهو أهم أركان الدولة لدى ملك مصر { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } فلم ينصبه الملك ويختر له منصبا كما يريد إنما نصّب نفسه عليه السلام واختار لنفسه منصب وزير الإقتصاد فهو في هذا المنحى كأنه الوزير والمستشار الشخصي للملك
ومن هذا النوع من دولة الملك ما ورد في قصة طالوت الملك { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } فذهبوا تحت وصاية نبيهم الذي أرشدهم إلى ما فيه صلاحهم لذلك كان سيدنا داوود عليه السلام وهو شاب من جملة جنود وأتباع طالوت الملك لذلك عدوا إمارة عمر بن عبد العزيز التي دامت سنتين في دولة بني أمية خلافة عادلة راشدة
من هنا كانت الدول الملكية منها السيء ومنها الرشيد وقد تعاقبت على أمة الإسلام دول ودويلات أشهرها الدولة الأموية التي وصل سلطانها إلى أوروبا ثم دولة العباسيين ثم الدولة العثمانية التي فككت بتمامها وكمالها بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى مع دول المحور
- دولة الحكم الجبري : وهي الدول الديكتاتورية المستبدة في الحديث والقديم كالتي كان يمثلها فرعون موسى الطاغية اليساري الجلد الملحد مدعي الألوهية القائل لشعبه { قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَاد } مجيبا القائل من آل فرعون حينما نهاهم عن الطغيان { يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا }
لم يشفع لهذا النوع من الحكام بذل الوسع في بناء وتشييد دولهم -حيث أن الأهرامات مازالت قائمة إلى يوم الناس هذا- دون هداية الناس وتعليمهم كلام ربهم وأوامره ونواهيه وتقريبهم وتعريفهم بخالق الكون وخالقهم إذ لو شفع البناء الدنيوي دون البناء الأخروي لأحد لشفع لفرعون المقول في مملكته الساحرة { كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ } وكذلك في عاد من قبل { إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ } فكانوا آية في قوة البنية الجسدية والمادية والإقتصادية لكن لم يغن عنهم ذلك من شيء لعدم وجود الأصل الأصيل وهو الإيمان بالله ورسله
عندما تسمع وتشاهد اليوم ما تبثه مختلف أجهزة الإعلام في كلّ دولة من شائعات وغيبة ونميمة وفتنة وتحريض على الفوضى وتلبيس وتضليل تدرك جازما أن البشرية صائرة إلى الهلاك غارقة في شرور النفس الأمارة بالسوء وهم لا يشعرون
لذلك لا تستغرب إذا ما عايشت عندما تدكّ تلك النفوس دكا لأن ما يشهده العالم اليوم من انتشار متنوع لفيروس كورونا المتحوّل وكثرة الأزمات الإقتصادية حتى هاجت الشعوب وقد يزداد هيجانها إلى حدّ مهول مع كثرة الحروب والفوضى وسفك الدماء في أكثر من مكان خصوصا وطننا العربي الجريح الذي هو مركز الصراع تدرك يقينا أن ذلك جزء بسيط من ذلك الدكّ من باب ( ويل للعرب من شر قد اقترب )
{ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ }
_________________
إِلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّي مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّي
يَظُّنُ الناسُ بي خَيراً وَإِنّي لَشَرُّ الخَلقِ إِن لَم تَعفُ عَنّي